مزادات بنك السودان وحرية سوق النقد الأجنبى بين الشفافية والاحتكار

الخرطوم  (سونا) – آلية تنظيم عمليات مزادات النقد الأجنبي التي أعلنها البنك المركزي، بعد مضي حوالى ثلاثة أشهر من إطلاق سياسة توحيد سعر الصرف، عدها البنك خطوة أولى للتدخل، يتبعها إطلاق نظام إلكتروني محكم في القريب العاجل، يمكن كافة المتعاملين فى سوق النقد الأجنبي من التداول بكل سهولة وشفافية لكسر الجمود الحالي فى سوق النقد الأجنبي ومحاربة كافة عمليات المضاربة والوساطة الضارة، وذلك في إطار انفاذه لسياسة سعر الصرف المرن المدار والتي يسعى من خلالها إلى تحقيق الاستقرار المطلوب في سوق النقد الأجنبي وللمقاربة فيه بين سعر الصرف الرسمي المعلن من قبل بنك السودان وسعر النقد الأجنبي في السوق الموازي.

ولعل آلية المزادات ( FX Auctions ) والتي يتدخل من خلالها بنك السودان في سوق النقد الأجنبي تسعى  للتأثير على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي  على نحو يحقق أهداف ومقاصد السياسة النقدية في وقت يمر فيه الاقتصاد السوداني بأزمة إقتصادية متعمقة ومركبة أدت في مجملها الى تدهور معظم المؤشرات الاقتصادية الكلية.

آلية لتحقيق مرامى السياسات الإقتصادية:

إعتبر الأكاديمي دكتور محمد خير حسن محمد عميد كلية الإقتصاد السابق بجامعة أم درمان الإسلامية ان تدخل بنك السودان في إدارة سوق النقد الأجنبي، لايقدح بأي حال من الأحوال في إلتزامه بسياسة تحرير سوق النقد الأجنبي إذ أن تدخله يتم بصورة غير مباشرة وذلك  بتوظيف آلية السوق وهي آلية معروف عنها انه يمكن استخدامها (قبضاً وبسطاً)  لتنفيذ سياسة نقدية إنكماشية أو سياسة نقدية توسعية لتحقيق مرامى السياسات الإقتصادية وتأثيرها المنشود على سعر الصرف ومعدل التضخم ووضعية الميزان التجاري على سبيل المثال لا الحصر.

وأشار إلى ان تدخل بنك السودان يتم عبر آلية المزادات، بإعلانه عن مزاد للنقد الأجنبي بين البنوك التجارية وهو مزاد مشروط لتوجيه موارد النقد الأجنبي تجاه بعض سلع الوارد ذات الأولوية وهو مزاد تحكمي مشروط بسقوفات للنقد الأجنبي المتاح لكل بنك ولكل عميل إعمالاً للسياسات الضابطة لإتجاهات تدفق وتداول العملات الحرة في سوق النقد الأجنبي.

ورهن نجاح آلية المزادات بتوفر بعض إشتراطاتها المتعلقة بقدرات العملاء المالية لدى البنك التجاري المعنى ( الراغبين في الدخول في المزاد) ومستوى وقدرة البنك التجاري المعين المشار إليها، بحسابه لدى بنك السودان، كما يتوقف نجاحها في آثارها على كثير من  مؤشرات الإقتصاد الكلي  ومدى توفر إحتياطات كافية من النقد الأجنبي لدى بنك السودان.

وأكد أن نجاح آلية المزادات يتطلب كفاية ودائع البنوك التجارية لدى البنك المركزي، فضلاً عن ذلك  يتوقف نجاح الآلية على حسن ترتيب أولويات بنك السودان فيما يتعلق بنوعية وطبيعة السلع المستوردة التي ستوجه إليها موارد المزادات، إذ لا ينبغي أن توجه إلى سلع الرفاهية إنما يجب أن يستهدف بها السلع الاستراتيجية التي تحرك جمود القطاعات الإنتاجية وبعض السلع الأساسية ذات الأولوية.

وفي وقت سابق أعلن البنك المركزي نجاح سياسات سعر الصرف المرن المدار في  إجتذاب ما يربو على 1.2 مليار دولار في الفترة القليلة الماضية.

  تجربة ناجحة تتطلب إدارة حادبة على مصلحة الوطن:

أثبتت تجربة المزاد نجاحها في كثير من الدول على المستوى الإقليمي والدولي ولكي تنجح في السودان  فقد دعا الخبراء إلى وجود إدارة حاذقة شفافة وحادبة على مصلحة الوطن، فوق المصالح الذاتية الضيقة والتي يمكن تحقيقها من خلال الحصول على بعض موارد النقد الأجنبي والمضاربة بها على نحو يضر بالبلاد والعباد.

وطالب محمد خير بأن  تتحلى إدارة المزادات بالصرامة والتجرد والنزاهة والجدية اللازمة وتقوم بإسترداد اي موارد من النقد الأجنبي والتي لا يقوم العميل بتوجيهها للأغراض التي حددت له وبالسعر الذي رسى عليه المزاد حينها وذلك حتى تتمكن الإدارة من سد أي ثغرات يمكن أن تشوب عمل هذه الآلية.

مزاد العملات أحد مظاهر الإستعمار الاقتصادي:

 رأي آخر طرح خلاله الخبير المصرفي دكتور لؤي عبد المنعم تساؤلا، لمصلحة من يدعم بنك السودان الإحتكار و رفع الأسعار و يشجع التضخم؟ ويبين (لسونا) بأن القرار الذي أصدره بنك السودان بخصوص مزادات العملات الأجنبية يؤدي الى ترسيخ الإحتكار لدى قلة من الرأسمالية، تستطيع شراء الدولار وغيره من العملات الأجنبية بأعلى سعر و إخراج الآخرين من المزاد.

وأشار إلى الآثار التي تترتب عليها من رفع الدولار في السوق الموازي الذي سوف يبني حده الأدنى على أعلى سعر في مزاد عملات البنك المركزي.

ودعا دكتور عبد المنعم إلى أن يتم بيع العملات للجميع حسب أولويات الحكومة والأولوية للسلع الأساسية وبعد حصر الطلبات يوزع المبلغ بنسبة مئوية من مبلغ طلب الشراء بعد تحديد حد أدنى وأعلى لطلبات الشراء.

وقال: “لا يمكن وضع البيض كله في سلة واحدة”، مؤكداً أن  المنافسة في السوق ضمان لخفض الأسعار.

وأتهم جهات لم يسمها بالإستفادة من القرار لأنها غير مدركة لتأثيره المدمر على الاقتصاد.

وأوضح أن بيع الدولار متروك للبنك التجاري ثم تدخل بنك السودان عبر إستمارة الإستيراد (IM) وهي عادلة في توزيع الفرص وتتضمن سعر مدعوم للسلع الأساسية والمشروعات الجديدة، بخلاف الوضع الجديد بعد التعويم و(مزاد العملات) التي تؤدي إلى إطلاق العنان للدولار ليتصاعد خلال فترة وجيزة.

وأبان أن السوق الموازي يحتكم على سيولة كبيرة؛ نتيجة زيادة بيع العقارات وهجرة رؤوس الأموال للخارج، مبيناً أنه لا سبيل لمجاراته بهذه الخطوة التي من شأنها تخفيض قيمة الجنيه ليصبح عديم القيمة.

المزادات وصفة صندوق النقد مقابل شطب الديون:

وأكد الدكتور عبد المنعم تزامن التعويم مع رفع الدعم بنسبة 100% وبدون مصفوفة متكاملة للتخفيف من الآثار على الشرائح الضعيفة، بالتزامن مع جائحة كورونا التي زادت معدلات الإنكماش الإقتصادي في ظل تراجع حجم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تأثرت بالجائحة و التي تشكل 70% من حجم الإقتصاد الكلي وفي ظل تراجع الموارد بسبب ضعف الإنتاج الناجم من زيادة تكلفة مدخلات الإنتاج نتيجة مضاعفة الرسوم و زيادة الضرائب .

 وقال هناك تدمير ممنهج للاقتصاد وليس إصلاحات مدروسة تخضع لإملاءات صندوق النقد الدولي وتدفع بالإقتصاد إلى حافة الهاوية.

وأوضح أن مزاد العملات الأجنبية ليس من أدوات السياسة النقدية التي تقبل عليها الدول مختارة، بل هي ضغوط لتخريب إقتصاد الدول و هي وصفة جاهزة لصندوق النقد مقابل (دراسة شطب الديون)، مؤكداً أن تخفيض أثر مزاد العملات في إستنزاف الدولار، يكمن في زيادة الإيرادات الحكومية وان إمكانيات السودان ضعيفة حالياً، لقلة موارده النفطية ولضعف صادراته، كما أنه ليس لديه أسواق أجنبية وتعاقدات خارجية كبيرة، مستدركاً بأنه في الغالب سوف يلجأ إلى زيادة  (الضرائب والرسوم الجمركية و رسوم الخدمات مثل الكهرباء و المياه و أسعار الوقود ) وهذا بدوره سوف يؤثر على الإقتصاد برمته وعلى الصادر سلباً.

واستشهد بتجربة هيئة النزاهة العراقية والتي كشفت في ديسمبر 2019،  تفاصيل قضايا جزائية متعلقة بملف مزاد العملة التي تتولى التحقيق فيها، وتحدثت عن ثلاثة حيل مختلفة استخدمتها مصارف حكومية، بينها إستخدام حسابات أشخاص من دون علمهم وإيداع صكوك لآخرين لايمتلكون رصيداً، لافتاً إلى أن  القرار سيؤدي إلى خضوع السودان إقتصادياً لجهات خارجية ستتحكم بوجهة الإستيراد والتصدير والخروج من هذا المأزق سيكون صعباً جداً وممكن ترتكب فيه جرائم تصفية، كما حدث في العراق، نتيجة تنفيذ هذه السياسة إرتفعت ديون العراق أكثر من 100 مليار دولار.

دعوة لتكوين لجنة تحكيم  لإدارة المزاد:

أشادت دكتورة ماجدة مصطفى صادق علي رئيسة  قسم  اللإقتصاد بجامعة  السودان العالمية بنظام مزاد العملات الأجنبية والذي يتسم بالشفافية والكفاءة في تخصيص العملات ودعت بنك السودان المركزى إلى  تكوين لجنة تحكيم لإدارة المزاد تضم مسؤولين من وزارة المالية والتخطيط الإقتصادي ولجنة السياسة النقدية والبنك المركزي للإشراف على عمليات المزاد.

  كما دعت إلى وضع ضمانات لتخصيص معظم الموارد المتاحة لأنشطة القطاع الإنتاجي وتحديد حد أقصى لمبلغ العطاء  لضمان توزيع الموارد المتاحة على العديد من المستفيدين.

وقالت في تصريح (لسونا) إذا  استطاع  بنك  السودان  المركزى  بصورة  قوية وعبر  إجراءات إدارية قوية من الممكن أن يتحدد سعر صرف  من خلال نظام المزاد ويجعل  المصدرين  والتجار أكثر  رغبة  فى التعامل مع مزاد  العملات”.

 وأعربت عن أملها في أن  يستقر سعر الصرف بعد بضعة مزادات بناءاً على إكتشاف السعر في ظل نظام المزاد بما يؤدى إلى إستقرار  أسعار السلع والخدمات.

وأشارت إلى ان مزاد العملات الأجنبية (FX) إحدى  أدوات  السياسة النقدية ويقوم البنك المركزي ببيع مبلغ معين من العملات الأجنبية بإنتظام من خلال عملية تقديم العطاءات ويشتري العملات الأجنبية في الفترات المتداخلة بالسعر السابق المحدد بالمزاد.

وأكدت على ميزته في تحقيق  الشفافية والتي تتم بالعطاءات بخلاف نظام تخصيص العملات الأجنبية والأنظمة الأخرى.

وأوضحت أن الهدف الأساسي من  سياسة المزاد هو  تحديد  أسعار الصرف ليصبح السعر التشغيلي للمعاملات بين تواريخ المزاد. وأبانت أن البنوك ومكاتب الصرافة تستخدم  السعر لشراء وبيع العملات الأجنبية بين تواريخ المزاد وتوفير المبالغ  المطلوبة من النقد الأجنبى  من قبل البنوك خلال تلك  الفترات بسعر الصرف السائد، إذا كان المزاد مفتوحاً للجميع.

وأضافت قائله ” نأمل أن تقدم الشركات عروض أسعار للعملات الأجنبية بأسعار تسمح لها بتسعير سلعها وخدماتها بمستويات يستطيع العملاء تحملها”.

توقيت آلية المزاد لا يتوافق والأوضاع الاقتصادية:

ويطرح الدكتور هيثم فتحي الخبير الإقتصادي حلول لمشكلة إنخفاض قيمة الجنيه السوداني ويشير إلى أهمية الإستقرار السياسي والأمنى وإتجاه الإقتصاد المحلي نحو العمل والإنتاج، وأن تعلن الحكومة عن رؤية واضحة تطمئن الشارع وأن لا تتيح البنوك الدولار؛ إلا لمن يستخدمه في أغراض مشروعة مثل مستلزمات الإنتاج والآلات وأما السلع التفاخرية أو السيارات أو السلع الإستهلاكية فعلى مستورديها تدبير تمويلها بطرقهم الخاصة.

وأشار إلى أن التوقيت الذي تم فيه إستخدام آلية المزاد على سعر الدولار غير مناسب، وأن لبلاد الآن ليس لديها موارد دولارية منذ فترة. وقال إن التقليل من تأثير المزاد يتم من خلال تعظيم إيرادات الدولة من الجنيه وتوفير بدائل محلية عن المستورادات الضرورية.

ودعا إلى ضرورة تحديد سعر الصرف بسلاسة لأن عرقلته ستؤثر على الطلب على الدولار وسيشبع من السوق وسيكون هذا الإشباع بسعر صرف أعلى وبالتالي يحصل الإرتباك في السوق ويكون هذا مقدمة لتعدد أسعار الصرف، الأمر الذي يعرقل إتخاذ القرارات الإقتصادية وتنفيذها.

ونبه الدكتور فتحي إلى أن نظام المزاد سيسمح لسعر الجنيه بأن يعكس بشكل أفضل العرض والطلب، وإنه من غير المؤكد بعد إذا ما كان ذلك سينجح في كبح جماح سحب العملات أو إلى أي مدى يعد البنك المركزي مهيأ للصرف من إحتياطاته الأجنبية في حال تواصل ضغط السوق المؤدي لإخفاض قيمة الجنية وأنه في بعض الحالات لا يتم السيطرة على سوق العملة، مما يؤدي إلى التفاوت بين السعر الرسمي وسعر السوق، ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة من جانب العرض والطلب.

وأشار إلى إحتمال حدوث بعض الأزمات التي تولد زيادة في الطلب على الدولار بإعتباره سلعة أمان وضمان، كما بالإمكان ان يزود البنك المركزي المصارف بالدولار، ولكن ليس من الممكن إيصال هذا الدولار الى المستفيد النهائي من قبل المصارف بالمرونة المطلوبة، كل هذه الأمور تعرقل إنسيابية العملة الأجنبية والحصول عليها مما يؤدي لإرتفاع سعر السوق، وهذه الظواهر تعيق إنسيابية السوق، خاصة أن هناك توجه عام  لدى الأفراد نحو ما يسمى بالدولرة (تحويل أرصدتهم من الجنيه إلى الدولار) نتيجة التخوف من إنخفاض قيمة ثرواتهم بالعملة المحلية، وثمة تساؤل عن مدى نجاح الآلية والذي ستجيب عليه التجربة في الأيام المقبلة