مكاسب المرأة التونسية: “شجرة تخفي غابة معاناة”

 كشف التقرير الاخير للهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر، عن وجه مخفي وغير مشرق للمرأة التونسية، رغم مكاسبها التي طالما تباهى السياسيون على اختلاف مشاربهم بريادتها وتقدمها مقارنـــة بعديد دول العالم .

متعلمة كانت أو أمية، حضرية أو ريفية، مواطنة أو أجنبية مقيمة بصفة شرعية وخاصة بصفة غير شرعية، أمست “نساء من البلاد” حلقة أساسية في مختلف جرائم الاتجار بالبشر والتصقت بها تهمة “ضحية ” أساسا لتتطور التهمة هذه السنة وتكون “متورطة وفاعلة” فيها.

واستأثرت المرأة التونسية بترسانة قانونية دعمت حرياتها ومكاسبها السياسية والاجتماعية والمدنية خاصة من خلال بعض القوانين “التقدمية ” أساسا خلال فترة ما بعد “ثورة الياسمين”، ومنها قانون القضاء على كافة أشكال العنف المسلط على المرأة وقانون مكافحة الاتجار بالأشخاص وإقرار مبدأ التناصف العمودي منذ انتخابات أكتوبر 2014 والأفقي والعمودي على حد السواء في القائمات المترشحة لمختلف الانتخابات بداية من الانتخابات البلدية لسنة 2018، تنضاف إلى عديد المكاسب التاريخية التي حصدتها التونسيات عبر التاريخ وأهمها مجلة الأحوال الشخصية التي أرست مدنية الكيان الأسري ومنعت تعدد الزوجات في تونس.

هذه الترسانة، التي يسعى المدافعون عن حقوق المرأة والمنخرطون في الحراك النسوي الداعم للمساواة بين الجنسين إلى تعزيزها من خلال عديد المبادرات التشريعية، منها ما لقي قبولا واسعا وآخر قوبل بالرفض المجتمعي على غرار مشروع قانون المساواة في الميراث، ساهمت في نفاذ المرأة إلى أغلب مؤسسات الدولة والهياكل المنتخبة حيث أمست تمثل 35.94  بالمائة في مجلس نواب الشعب ب 78 نائب إمرأة من بين 217 نائبا ما جعل تونس تصنف في المرتبة 27 عالميا على مستوى تمثيلية المرأة في البرلمان . وبلغ عدد رئيسات البلدية 68 رئيسة بلدية أي ما يعادل 19.5 بالمائة من جملة رؤساء البلديات المنتخبين خلال انتخابات 6 مايو 2018 التي شملت 350 بلدية.

هذا الحضور الرقمي الساطع في بعض مواضع القرار للمرأة التونسية لا يجب أن يكون “الشجرة التي تخفي الغابة”. حضور لا يعكس الحقيقة كاملة  لوضع النساء في تونس، فالواقع يخفي صورة أخرى قاتمة مغيبة في كثير من الأحيان في الإعلام وفي التناول النخبوي للقضايا النسوية التي تغيب عنه تماما مآسي المرأة الريفية التي تكاد تتكرر يوميا، فمن هذه الفئة من لا تجد قوتها وقوت عيالها، مثلما لا يستحضر ما تقاسيه المعطلة عن العمل أو النساء المنتهكات خلف جدران  الصمت.

 فمؤشرات حضور المرأة في مواقع القرار لم تجد لها ترجمة على مستوى تقلد المرأة مناصب عليا في الدولة إذ لم يتجاوز نسبة الوزيرات في حكومة يوسف الشاهد الحالية عشر عدد الوزراء إذا وقع تعيين 3 وزيرات وكاتبتي دولة من بين أعضاء حكومة تتركب من 30 وزيرا و 11 كاتب دولة على رأسهم رئيس الحكومة، ولم تتقلد المرأة في تونس عبر تاريخها أي من الحقائب الوزارية السيادية.

ولا تخفي هذه المؤشرات حال النساء المنسيات في بلد وقع فيه تأنيث الفقر، وما يعشنه من معاناة متعددة الأبعاد وفي مقدمتها جرائم الاتجار بالبشر والتهميش والبطالة والفقر متعدد الأوجه، فالمرأة تظل في تونس وكما في غيرها من دول العالم والمنطقة العربية الفئة الأكثر هشاشة والأكثر معاناة.

وتفيد الاحصائيات الرسمية لوزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن لسنة 2017 أن نسبة ارتقاء النساء إلى الخطط الوظيفية لا تتجاوز 29.7 بالمائة، وفي المقابل تقدر نسبة البطالة في صفوف الإناث ضعفها عند الذكور إذ بلغت هذه النسبة على التوالي 22.7 بالمائة و12.5 بالمائة، حسب احصائيات المعهد الوطني للإحصاء.  وارتفعت هذه النسبة في صفوف خريجات التعليم العالي إلى حدود 38.7 بالمائة مقابل 18 بالمائة في صفوف الذكور من هذه الشريحة.

ولعل الظروف المعيشية ونقص الإحاطة بهذه الفئة جعلت منها لقمة سائغة  للجماعات التكفيرية والارهابية إذ مثلت النساء التونسيات 10 بالمائة من مجموع اللائي تم استقطابهن لتبني الفكر التكفيري والتحقن فعلا ببؤر النزاع والإرهاب، حسب احصائيات وزارة الداخلية.

وأتى تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص لسنة 2018 الذي تم الإعلان عن نتائجه يوم 23 يناير 2019، ليعكس بأكثر دقة وجها من أوجه هذه المعاناة فقد أحصى 239 ضحية من النساء والفتيات ( 187 راشدة و 52 ضحية طفلة) من بين 780 ضحية لجرائم الاتجار بالبشر أي بنسبة 62.4 بالمائة مقابل 144 ضحية من جنس الذكور.

وفي قراءة لهذه النتائج بينت رئيسة الهيئة روضة العبيدي أن المرأة تونسية كانت أو أجنبية في تونس هي الأكثر استهدافا بهذه الجريمة خاصة في مجالات الاستغلال الجنسي والاقتصادي والتشغيل القسري مرجعة هذه التجاوزات إلى العقلية الذكورية التي تنحو إلى تشغيل المرأة وتستسهل استغلالها في مختلف هذه المجالات إذ ترضى بظروف عمل قاسية وراتب أقل، مشددة على أن الهيئة تعوزها الإمكانيات المادية بشدة حتى تقوم بدورها التوعوي والوقائي للحد من انتشار هذه الجرائم وتقديم المساعدة الملائمة لضحاياها.

وفي علاقة بدورها في جرائم الاتجار بالبشر، أكدت العبيدي أن دور المرأة لم  يقتصر على دور الضحية وإنما تجاوزه إلى دور الفاعل فيها كمتورطة ومرتكبة لمثل هذه  الجرائم إذ دخلت مجال استقطاب الفتيات للعمل في المنازل واستدراج أخريات بين قصر وراشدات للعمل القسري أو التغرير بهن في الاستغلال الجنسي.

وقد شمل التشغيل القسري، حسب التقرير، بالإضافة إلى التونسيات عددا من الأجنبيات تم استغلالهن للعمل  خاصة في الملاهي الليلية والحانات والمقاهي وفي المنازل بعد التغرير بهن في بلدانهن الأصلية ( في 16 حالة من كل من الكوت دي فوار وروسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وكوبا) واستجلابهن بغرض الدراسة أو الشغل في مجالات أخرى أكثر احتراما للذات البشرية، لتجد نفسها ضحية الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي ويبلغ  العدد الاجمالي لضحايا الاستغلال الجنسي 35 إمرأة.

واعتبرت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي أن المرأة تكاد تكون “فريسة سهلة” لهذه الشبكات نظرا لسهولة السيطرة على الضحية خاصة في مجالات الاستغلال الاقتصادي.

وقالت إن الأمر بلغ حد عرض الفتيات للعمل معينات في المنازل في ممارسة أقرب إلى الاسترقاق والاستعباد في العصور الوسطى، لافتة إلى أن من بين مستغلي هؤلاء الفتيات في ظروف مهينة للكرامة الإنسانية، مثقفون ومثقفات، معتبرة أن نقص الامكانيات يحول دون قيام هياكل المجتمع المدني بالدور المحمول عليها في رصد هذه الجرائم والحد منها.

وارتقت المرأة إلى مرتبة متورط أو فاعل في جرائم الاتجار بالأشخاص إذ توصلت الهيئة إلى توثيق تورط 99 امرأة في هذه القضايا أي بنسبة 49.7 بالمائة موزعات بين 70 متورطة في قضايا الاستغلال الاقتصادي و 19 متورطة في قضايا الاستغلال الجنسي و10 في التشغيل القسري مقابل تورط 100 من جنس الذكور في مجمل هذه الجرائم.

وزيرة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن نزيهة العبيدي أكدت أمام لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمسنين بمجلس نواب الشعب أن العمل ينصب على مقاومة جرائم الاتجار بالأشخاص من خلال وضع برنامج للتصدي لظاهرة استغلال الفتيات القاصرات كمعينات منزليات وانقطاعهن عن الدراسة، وذلك في اطار تعزيز الجهود التي تبذلها الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر في اطار اتفاقية تم ابرامها بين الطرفين يوم 22 جانفي الجاري للتصدي لهذه الظاهرة.

وليست المرأة التونسية استثناء في مجال جرائم الاتجار بالأشخاص التي تمس 21 مليون شخص ضحية للتشغيل القسري في العالم بمن فيهم ضحايا الاستغلال الجنسي حسب منظمة العمل الدولية.

ويقدر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أن هناك ملايين من البشر يرزحون تحت ربقة هذه الممارسات المشينة في العالم.

ومع تنامي ظاهرة الانتهاكات الفظيعة التي تنال من المرأة في تونس تظل شعارات الريادة في مجال صيانة “الكرامة النسوية”، في بعض الاحيان، مجرد حبر لم يغادر الورق ليغير واقعا يخفي جرائم وفظاعات تجعل من التساؤل بعد عقود من مجلة الأحوال الشخصية التي تعد أول دستور نسوي في العالم العربي يطرح بأكثر حدة “هل حققت المرأة في تونس حريتها بالفعل أم أن الطريق لا يزال طويلا؟”

( النشرة النسوية لوكالة تونس أفريقيا للأنباء – ضمن ملف الخدمة الأعلامية النسوية لاتحاد وكالات الأنباء العربية (فانا))